فصل: أَقْسَامُ الِاسْتِعَارَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فَصْلُ: الِاسْتِعَارَةِ:

زُوِّجَ الْمَجَازُ بِالتَّشْبِيهِ، فَتَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا الِاسْتِعَارَةُ، فَهِيَ مَجَازٌ عَلَاقَتُهُ الْمُشَابَهَةُ. أَوْ يُقَالُ فِي تَعْرِيفِهَا: اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا شُبِّهَ بِمَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَجَازٌ لُغَوِيٌّ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ لَا لِلْمُشَبَّهِ، وَلَا الْأَعَمِّ مِنْهُمَا، فَأَسَدٌ فِي قَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي، مَوْضُوعٌ لِلسَّبُعِ لَا لِلشُّجَاعِ، وَلَا لِمَعْنًى أَعَمَّ مِنْهُمَا، كَالْحَيَوَانِ الْجَرِيءِ مَثَلًا لِيَكُونَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً كَإِطْلَاقِ الْحَيَوَانِ عَلَيْهِمَا.
وَقِيلَ: مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهَا فِي أَمْرٍ عَقْلِيٍّ لَا لُغَوِيٍّ لِأَنَّهَا لَا تُطْلَقُ عَلَى الْمُشَبَّهِ إِلَّا بَعْدَ ادِّعَاءِ دُخُولِهِ فِي جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ نَقْلِ الِاسْمِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ نَقْلُ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ اسْتِعَارَةً؛ لِأَنَّهُ لَا بَلَاغَةَ فِيهِ بِدَلِيلِ الْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَقْلِيًّا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَقِيقَةُ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ تُسْتَعَارَ الْكَلِمَةُ مِنْ شَيْءٍ مَعْرُوفٍ بِهَا إِلَى شَيْءٍ لَمْ يُعْرَفْ بِهَا، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْخَفِيِّ وَإِيضَاحُ الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ بِجَلِيٍّ، أَوْ حُصُولُ الْمُبَالَغَةِ أَوِ الْمَجْمُوعِ.
مِثَالُ إِظْهَارِ الْخَفِيّ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزُّخْرُف: 4]، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ: وَأَنَّهُ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ، فَاسْتُعِيرَ لَفْظُ الْأُمِّ لِلْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ تَنْشَأُ مِنَ الْأُمِّ كَإِنْشَاءِ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَمْثِيلُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ حَتَّى يَصِيرَ مَرْئِيًّا، فَيَنْتَقِلُ السَّامِعُ مِنْ حَدِّ السَّمَاعِ إِلَى حَدِّ الْعَيَانِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْبَيِانِ.
وَمِثَالُ إِيضَاحِ مَا لَيْسَ بِجَلِيٍّ لِيَصِيرَ جَلِيًّا {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الْإِسْرَاء: 24]، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَمْرُ الْوَلَدِ بِالذُّلِّ لِوَالِدَيْهِ رَحْمَةً فَاسْتُعِيرَ لِلذُّلِّ أَوَّلًا (جَانِبٌ) ثُمَّ لِلْجَانِبِ جَنَاحٌ، وَتَقْدِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْقَرِيبَة: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَانِبَ الذُّلِّ) أَي: اخِفِضْ جَانِبَكَ ذُلًّا.
وَحِكْمَةُ الِاسْتِعَارَةِ فِي هَذَا جَعْلُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ مَرْئِيًّا لِأَجْلِ حُسْنِ الْبَيَانِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ خَفْضَ جَانِبِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُبْقِي الْوَلَدُ مِنَ الذُّلِّ لَهُمَا وَالِاسْتِكَانَةِ مُمْكِنًا احْتِيجَ فِي الِاسْتِعَارَةِ إِلَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى فَاسْتُعِيرَ لَفْظُ الْجَنَاحِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَحْصُلُ مِنْ خَفْضِ الْجَانِبِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَمِيلُ جَانِبُهُ إِلَى جِهَةِ السُّفْلِ أَدْنَى مَيْلٍ، صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَفَضَ جَانِبَهُ، وَالْمُرَادُ خَفْضٌ يُلْصِقُ الْجَانِبَ بِالْأَرْضِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِذِكْرِ الْجَنَاحِ كَالطَّائِرِ.
وَمِثَالُ الْمُبَالَغَةِ {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [الْقَمَر: 12]، وَحَقِيقَتُهُ: (وَفَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ)، وَلَوْ عَبَّرَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا فِي الْأَوَّلِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا صَارَتْ عُيُونًا.

.فَرْعٌ: أَرْكَانُ الِاسْتِعَارَةِ:

أَرْكَانُ الِاسْتِعَارَةِ ثَلَاثَةٌ فِي الْقُرْآن:
مُسْتَعَارٌ، وَهُوَ لَفْظُ الْمُشَبَّهِ بِهِ.
وَمُسْتَعَارٌ مِنْهُ، وَهُوَ مَعْنَى لَفْظِ الْمُشَبَّهِ.
وَمُسْتَعَارٌ لَهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ.

.أَقْسَامُ الِاسْتِعَارَةِ:

وَأَقْسَامُهَا كَثِيرَةٌ بِاعْتِبَارَاتٍ:
فَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: اسْتِعَارَةُ مَحْسُوسٍ لِمَحْسُوسٍ بِوَجْهٍ مَحْسُوسٍ، نَحْو: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مَرْيَمَ: 4]، فَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ هُوَ النَّارُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الشَّيْبُ، وَالْوَجْهُ هُوَ الِانْبِسَاطُ وَمُشَابَهَةُ ضَوْءِ النَّارِ لِبَيَاضِ الشَّيْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْسُوسٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قِيلَ: اشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ. لِإِفَادَةِ عُمُومِ الشَّيْبِ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ.
وَمِثْلُهُ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الْكَهْف: 99]، أَصْلُ الْمَوْجِ حَرَكَةُ الْمَاءِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي حَرَكَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَالْجَامِعُ سُرْعَةُ الِاضْطِرَابِ وَتَتَابُعُهُ فِي الْكَثْرَةِ.
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التَّكْوِير: 18]، اسْتُعِيرَ خُرُوجُ النَّفَسِ شَيْئًا فَشَيْئًا لِخُرُوجِ النُّورِ مِنَ الْمَشْرِقِ عِنْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ قَلِيلًا قَلِيلًا، بِجَامِعِ التَّتَابُعِ عَلَى طَرِيقِ التَّدْرِيجِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْسُوسٌ.
الثَّانِي: اسْتِعَارَةُ مَحْسُوسٍ لِمَحْسُوسٍ بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَهِيَ أَلْطَفُ مِنَ الْأُولَى، نَحْو: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37]، فَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ السَّلْخُ الَّذِي هُوَ كَشْطُ الْجِلْدِ عَنِ الشَّاةِ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ كَشْفُ الضَّوْءِ عَنْ مَكَانِ اللَّيْلِ وَهُمَا حِسِّيَّانِ، وَالْجَامِعُ مَا يُعْقَلُ مِنْ تَرَتُّبِ أَمْرٍ عَلَى آخَرَ وَحُصُولِهِ عَقِبَ حُصُولِهِ، كَتَرَتُّبِ ظُهُورِ اللَّحْمِ عَلَى الْكَشْطِ وَظُهُورِ الظُّلْمَةِ عَلَى كَشْفِ الضَّوْءِ عَنْ مَكَانِ اللَّيْلِ، وَالتَّرَتُّبُ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ.
وَمِثْلُهُ: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} [يُونُسَ: 24]، أَصْلُ الْحَصِيدِ النَّبَاتُ، وَالْجَامِعُ الْهَلَاكُ، وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ.
الثَّالِثُ: اسْتِعَارَةُ مَعْقُولٍ لِمَعْقُولٍ بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَهِيَ أَلْطَفُ الِاسْتِعَارَاتِ، نَحْو: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]، الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ الرُّقَادُ؛ أَي: النَّوْمُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْمَوْتُ، وَالْجَامِعُ عَدَمُ ظُهُورِ الْفِعْلِ، وَالْكُلُّ عَقْلِيٌّ.
وَمِثْلُهُ {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الْأَعْرَاف: 154]، الْمُسْتَعَارُ السُّكُوتُ وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ السَّاكِتُ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْغَضَبُ.
الرَّابِعُ: اسْتِعَارَةُ مَحْسُوسٍ بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ أَيْضًا، نَحْو: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [الْبَقَرَة: 214]، اسْتُعِيرَ الْمَسُّ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ وَهُوَ مَحْسُوسٌ لِمُقَاسَاةِ الشَّدَّةِ وَالْجَامِعُ اللُّحُوقُ وَهُمَا عَقْلِيَّانِ {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الْأَنْبِيَاء: 18]، فَالْقَذْفُ وَالدَّمْغُ مُسْتَعَارَانِ وَهُمَا مَحْسُوسَانِ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ مُسْتَعَارٌ لَهُمَا وَهُمَا مَعْقُولَانِ {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 112]، اسْتُعِيرَ الْحَبَلُ الْمَحْسُوسُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ مَعْقُولٌ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الْحِجْر: 94]، اسْتُعِيرَ الصَّدْعُ وَهُوَ كَسْرُ الزُّجَاجَةِ وَهُوَ مَحْسُوسٌ لِلتَّبْلِيغِ وَهُوَ مَعْقُولٌ وَالْجَامِعُ التَّأْثِيرُ وَهُوَ أَبْلَغُ مَنْ بَلَغَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّدْعِ أَبْلَغُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّبْلِيغِ، فَقَدْ لَا يُؤَثِّرُ التَّبْلِيغُ، وَالصَّدْعُ يُؤَثِّرُ جَزْمًا، {‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الْإِسْرَاء: 24]، قَالَ الرَّاغِبُ: لَمَّا كَانَ الذُّلُّ عَلَى ضَرْبَيْن: ضَرْبٌ يَضَعُ الْإِنْسَانَ، وَضَرْبٌ يَرْفَعُهُ، وَقُصِدَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَا يَرْفَعُ، اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْجَنَاحِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اسْتَعْمِلِ الذُّلَّ الَّذِي يَرْفَعُكَ عِنْدَ اللَّهِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الْأَنْعَام: 68]، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 187]، {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى} [التَّوْبَة: 109]، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الْأَعْرَاف: 45]، {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطَّلَاق: 11]، {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الْفُرْقَان: 23]، {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشُّعَرَاء: 225]، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الْإِسْرَاء: 29]، كُلُّهَا مِنَ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ وَالْجَامِعُ عَقْلِيٌّ.
الْخَامِسُ: اسْتِعَارَةُ مَعْقُولٍ لِمَحْسُوسٍ وَالْجَامِعُ عَقْلِيٌّ أَيْضًا، نَحْو: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الْحَاقَّة: 11]، الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ التَّكْثِيرُ وَهُوَ عَقْلِيٌّ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ كَثْرَةُ الْمَاءِ وَهُوَ حِسِّيٌّ، وَالْجَامِعُ الِاسْتِعْلَاءُ وَهُوَ عَقْلِيٌّ أَيْضًا، وَمِثْلُهُ: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الْمُلْك: 8]، {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الْإِسْرَاء: 12].
وَتَنْقَسِمُ الِاسْتِعَارَةُ إِلَى أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ إِلَى:
أَصْلِيَّةٍ: وَهِيَ مَا كَانَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعَارُ فِيهَا اسْمُ جِنْسٍ كَآيَةِ {بِحَبْلِ اللَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 103]، {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطَّلَاق: 11]، {فِي كُلِّ وَادٍ} [الشُّعَرَاء: 225].
وَتَبَعِيَّةٍ: وَهِيَ مَا كَانَ اللَّفْظُ فِيهَا غَيْرُ اسْمِ جِنْسٍ كَالْفِعْلِ وَالْمُشْتَقَّاتِ كَسَائِرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَكَالْحُرُوفِ، نَحْو: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} [الْقَصَص: 8]، شَبَّهَ تَرَتُّبَ الْعَدَاوَةِ وَالْحُزْنِ عَلَى الِالْتِقَاطِ بِتَرَتُّبِ غَلَبَةِ الْغَائِيَّةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ فِي الْمُشَبَّهِ اللَّامُ الْمَوْضُوعَةُ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ.
وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى مُرَشَّحَةٍ وَمُجَرَّدَةٍ وَمُطْلَقَةٍ.
فَالْأُولَى وَهِيَ أَبْلَغُهَا: أَنْ تَقْتَرِنَ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ، نَحْو: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [الْبَقَرَة: 16]، اسْتُعِيرَ الِاشْتِرَاءُ لِلِاسْتِبْدَالِ وَالِاخْتِبَارِ ثُمَّ قُرِنَ بِمَا يُلَائِمُهُ مِنَ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تُقْرَنَ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ لَهُ، نَحْو: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النَّحْل: 112]، اسْتُعِيرَ اللِّبَاسُ لِلْجُوعِ ثُمَّ قُرِنَ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مِنَ الْإِذَاقَةِ، وَلَوْ أَرَادَ التَّرْشِيحَ لَقَالَ: فَكَسَاهَا. لَكِنَّ التَّجْرِيدَ هُنَا أَبْلَغُ لِمَا فِي لَفْظِ الْإِذَاقَةِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَلَمِ بَاطِنًا.
وَالثَّالِثَةُ: أَلَّا تُقْرَنَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى تَحْقِيقِيَّةٍ، وَتَخْيِيلِيَّةٍ، وَمَكْنِيَّةٍ، وَتَصْرِيحِيَّةٍ.
فَالْأُولَى: مَا تَحَقَّقَ مَعْنَاهَا حِسًّا، نَحْو: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} الْآيَةَ، أَوْ عَقْلًا، نَحْو: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النِّسَاء: 174]؛ أَيْ: بَيَانًا وَاضِحًا وَحُجَّةً لَامِعَةً {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [فَاتِحَةِ الْكِتَاب: 6]؛ أَي: الدِّينَ الْحَقَّ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَتَحَقَّقُ عَقْلًا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُضْمَرَ التَّشْبِيهُ فِي النَّفْسِ فَلَا يُصَرَّحُ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ سِوَى الْمُشَبَّهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّشْبِيهِ الْمُضْمِرِ فِي النَّفْسِ بِأَنْ يَثْبُتَ لِلْمُشَبَّهِ أَمْرٌ مُخْتَصٌّ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ التَّشْبِيهُ الْمُضْمَرُ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ وَمَكْنِيًّا عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ، بَلْ دَلَّ عَلَيْهِ بِذِكْرِ خَوَاصِّهِ.
وَيُقَابِلُهُ التَّصْرِيحِيَّةُ وَيُسَمَّى إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُخْتَصِّ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ اسْتِعَارَةً تَخْيِيلِيَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتُعِيرَ لِلْمُشَبَّهِ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُخْتَصُّ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ، وَبِهِ يَكُونُ كَمَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَقِوَامُهُ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ لِتَخَيُّلِ أَنَّ الْمُشَبَّهَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [الْبَقَرَة: 27]، شَبَّهَ الْمِيثَاقَ بِالْحَبْلِ وَأَضْمَرَ فِي النَّفْسِ فَلَمْ يُصَرِّحْ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ التَّشْبِيهِ سِوَى الْعَهْدِ الْمُشَبَّهِ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ النَّقْضِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْحَبْلُ، وَكَذَا {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مَرْيَمَ: 4]، طَوَى ذِكْرَ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ النَّارُ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِلَازِمِهِ وَهُوَ الِاشْتِعَالُ {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} [النَّحْل: 112]، الْآيَةَ. شَبَّهَ مَا يُدْرَكُ مِنْ أَثَرِ الضَّرَرِ وَالْأَلَمِ بِمَا يُدْرَكُ مِنْ طَعْمِ الْمُرِّ، فَأَوْقَعَ عَلَيْهِ الْإِذَاقَةَ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الْبَقَرَة: 7]، شَبَّهَهَا فِي أَنْ لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ بِالشَّيْءِ الْمَوْثُوقِ الْمَخْتُومِ ثُمَّ أَثْبَتَ لَهَا الْخَتْمَ.
{جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الْكَهْف: 77]، شَبَّهَ مَيَلَانَهُ لِلسُّقُوطِ بِانْحِرَافِ الْحَيِّ فَأَثْبَتَ لَهُ الْإِرَادَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ خَوَاصِّ الْعُقَلَاءِ.
وَمِنَ التَّصْرِيحِيَّةِ آيَةُ: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} [الْبَقَرَة: 214]، {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52].
وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى:
وِفَاقِيَّةٍ: بِأَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ مُمْكِنًا، نَحْو: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الْأَنْعَام: 122]؛ أَيْ: ضَالًّا فَهَدَيْنَاهُ. اسْتُعِيرَ الْإِحْيَاءُ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ حَيًّا لِلْهِدَايَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُوصِّلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَالْإِحْيَاءُ وَالْهِدَايَةُ مِمَّا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ.
وَعِنَادِيَّةٍ: وَهِيَ مَا لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ، كَاسْتِعَارَةِ اسْمِ الْمَعْدُومِ لِلْمَوْجُودِ لِعَدَمِ نَفْعِهِ، وَاجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فِي شَيْءٍ مُمْتَنِعٍ.
وَمِنَ الْعِنَادِيَّة: التَّهَكُّمِيَّةُ وَالتَّمْلِيحِيَّةُ، وَهُمَا مَا اسْتُعْمِلَ فِي ضِدٍّ أَوْ نَقِيضٍ، نَحْو: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 21]؛ أَيْ: أَنْذِرْهُمْ، اسْتُعِيرَتِ الْبِشَارَةُ وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِمَا يَسُرُّ لِلْإِنْذَارِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ بِإِدْخَالِ جِنْسِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، نَحْو: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هُودٍ: 87]، عَنَوُا الْغَوِيَّ السَّفِيهَ تَهَكُّمًا {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدُّخَان: 49].
وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى:
تَمْثِيلِيَّةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ فِيهَا مُنْتَزَعًا مِنْ مُتَعَدِّدٍ، نَحْو: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آلِ عِمْرَانَ: 103]، شَبَّهَ اسْتِظْهَارَ الْعَبْدِ بِاللَّهِ وَوُثُوقَهُ بِحِمَايَتِهِ وَالنَّجَاةَ مِنَ الْمَكَارِهِ، بِاسْتِمْسَاكِ الْوَاقِعِ فِي مَهْوَاةٍ بِحَبْلٍ وَثِيقٍ مُدَلًّى مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ يَأْمَنُ انْقِطَاعَهُ.
تَنْبِيهٌ:
قَدْ تَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ بِلَفْظَيْنِ، نَحْو: {قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} [الْإِنْسَان: 15، 16]، يَعْنِي تِلْكَ الْأَوَانِي لَيْسَتْ مِنَ الزُّجَاجِ وَلَا مِنَ الْفِضَّةِ، بَلْ فِي صَفَاءِ الْقَارُورَةِ وَبَيَاضِ الْفِضَّةِ.
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الْفَجْر: 13]، فَالصَّبُّ كِنَايَةٌ عَنِ الدَّوَامِ، وَالسَّوْطُ عَنِ الْإِيلَامِ، فَالْمَعْنَى: عَذَّبَهُمْ عَذَابًا دَائِمًا مُؤْلِمًا.
فَائِدَةٌ: أَنْكَرَ قَوْمٌ الِاسْتِعَارَةَ بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمُ الْمَجَازَ، وَقَوْمٌ: إِطْلَاقَهَا فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إِيهَامًا لِلْحَاجَةِ، وَلِأَنَّ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ إِذْنٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَعَلَيْهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ.
وَقَالَ الطَّرْطُوشِيُّ: إِنْ أَطْلَقَ الْمُسْلِمُونَ الِاسْتِعَارَةَ فِيهِ أَطْلَقْنَاهَا، وَإِنِ امْتَنَعُوا امْتَنَعْنَا، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ (إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ) وَالْعِلْمُ هُوَ الْعَقْلُ، ثُمَّ لَا نَصِفُهُ بِهِ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ. انْتَهَى.
فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ: تَقَدَّمَ أَنَّ التَّشْبِيهَ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ وَأَشْرَفِهَا، وَاتَّفَقَ الْبُلَغَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ أَبْلَغُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا مَجَازٌ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَالْمَجَازُ أَبْلَغُ، فَإِذَا الِاسْتِعَارَةُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْفَصَاحَةِ، وَكَذَا الْكِنَايَةُ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ، وَالِاسْتِعَارَةُ أَبْلَغُ مِنَ الْكِنَايَةِ، كَمَا قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاح: إِنَّهُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهَا كَالْجَامِعَةِ بَيْنَ كِنَايَةٍ وَاسْتِعَارَةٍ، وَلِأَنَّهَا مَجَازٌ قَطْعًا.
وَفِي الْكِنَايَةِ خِلَافٌ.
وَأَبْلَغُ أَنْوَاعِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْكَشَّافِ وَيَلِيهَا الْمَكْنِيَّةُ صَرَّحَ بِهِ الطِّيبِيُّ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ.
وَالتَّرْشِيحِيَّةُ أَبْلَغُ مِنَ الْمُجَرَّدَةِ وَالْمُطْلَقَةِ، وَالتَّخْيِيلِيَّةُ أَبْلَغُ مِنَ التَّحْقِيقِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَبْلَغِيَّةِ إِفَادَةُ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي كَمَالِ التَّشْبِيهِ لَا زِيَادَةٍ فِي الْمَعْنَى لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.

.خَاتِمَةٌ: فِي تَحْرِيرِ الْفِرَقِ بَيْنَ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّشْبِيهِ الْمَحْذُوفِ الْأَدَاةِ:

مِنَ الْمُهِمِّ تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّشْبِيهِ الْمَحْذُوفِ الْأَدَاةِ، نَحْوُ: زِيدٌ أَسَدٌ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [الْبَقَرَة: 18]: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يُسَمَّى مَا فِي الْآيَةِ اسْتِعَارَةً، قُلْتُ: نَخْتَلِفُ فِيهِ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى تَسْمِيَتِهِ تَشْبِيهًا بَلِيغًا لَا اسْتِعَارَةً؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَإِنَّمَا تُطْلَقُ الِاسْتِعَارَةُ حَيْثُ يُطْوَى ذِكْرُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ، وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ خُلُوًّا عَنْهُ، صَالِحًا لِأَنْ يُرَادَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ وَالْمَنْقُولُ لَهُ، لَوْلَا دَلَالَةُ الْحَالِ أَوْ فَحَوَى الْكَلَامِ.
وَمِنْ ثَمَّ تَرَى الْمُفْلِقِينَ السَّحَرَةَ يَتَنَاسَوْنَ التَّشْبِيهَ وَيَضْرِبُونَ عَنْهُ صَفْحًا. وَعَلَّلَهُ السَّكَّاكِيُّ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِعَارَةِ إِمْكَانُ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ وَتَنَاسِي التَّشْبِيهِ، وَ(زَيْدٌ أَسَدٌ) لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً، وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ.
قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاح: وَمَا قَالَاهُ مَمْنُوعٌ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِعَارَةِ صَلَاحِيَةُ الْكَلَامِ لِصَرْفِهِ إِلَى الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ.
قَالَ: بَلْ لَوْ عُكِسَ ذَلِكَ وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ عَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لَكَانَ أَقْرَبَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ مَجَازٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَرِينَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ امْتَنَعَ صَرْفُهُ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ وَصَرَفْنَاهُ إِلَى حَقِيقَتِهِ، وَإِنَّمَا نَصْرِفُهُ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ بِقَرِينَةٍ: إِمَّا لَفْظِيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ، نَحْوُ: زِيدٌ أَسَدٌ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ زَيْدٍ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ عَنْ إِرَادَةِ حَقِيقَتِهِ.
قَالَ: وَالَّذِي نَخْتَارُهُ فِي، نَحْو: زِيدٌ أَسَدٌ قِسْمَان: تَارَةً يُقْصَدُ بِهِ التَّشْبِيهُ فَتَكُونُ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ مُقَدَّرَةً. وَتَارَةً يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِعَارَةُ فَلَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً، وَيَكُونُ الْأَسَدُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَذَكَرَ زَيْدٌ: وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ حَقِيقَةً قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ دَالَّةٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى حَذْفِ الْأَدَاةِ صِرْنَا إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ فَنَحْنُ بَيْنَ إِضْمَارٍ وَاسْتِعَارَةٍ، وَالِاسْتِعَارَةُ أَوْلَى فَيُصَارُ إِلَيْهَا.
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْفَرْقِ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ فِي قَوَانِينِ الْبَلَاغَةِ. وَكَذَا قَالَ حَازِمٌ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّشْبِيهِ فَتَقْدِيرُ حَرْفِ التَّشْبِيهِ لَا يَجُوزُ فِيهَا، وَالتَّشْبِيهُ بِغَيْرِ حَرْفٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وَاجِبٌ فِيهِ.